الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
عن [صحة أصول مذهب أهل المدينة] ومنزلة مالك المنسوب إليه مذهبهم في الإمامة والديانة، وضبطه علوم الشريعة عند أئمة علماء الأمصار وأهل الثقة والخبرة من سائر الأعصار ؟ فأجاب رضي الله عنه: الحمد لله، مذهب أهل المدينة النبوية - دار السنة ودار الهجرة ودار النصرة إذ فيها سن الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم سنن الإسلام وشرائعه وإليها هاجر المهاجرون إلى الله ورسوله وبها كان الأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم - مذهبهم في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أصح مذاهب أهل المدائن الإسلامية شرقا وغربا، في الأصول والفروع. وهذه الأعصار الثلاثة هي أعصار القرون الثلاثة المفضلة، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من وجوه: (خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) فذكر ابن حبان بعد قرنه قرنين بلا نزاع وفي بعض الأحاديث الشك في القرن الثالث بعد قرنه وقد روي في بعضها بالجزم بإثبات القرن الثالث بعد قرنه فتكون أربعة. وقد جزم بذلك ابن حبان البستي ونحوه من علماء أهل الحديث في طبقات هذه الأمة فإن هذه الزيادة ثابتة في الصحيح. أما أحاديث الثلاثة ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: (خير أمتي القرن الذين يلونني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته). وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سأل رجل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أي الناس خير؟ قال: القرن الذي بعثت فيهم، ثم الثاني، ثم الثالث). وأما الشك في الرابع، ففي الصحيحين عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم قال عمران: فلا أدري أقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد قرنه مرتين أو ثلاثا: ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن. وفي لفظ: خير هذه الأمة القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم الحديث وقال فيه: ويحلفون ولا يستحلفون). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: (خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم - والله أعلم: أذكر الثالث أم لا؟ - ثم يخلف قوم يحبون السمانة يشهدون قبل أن يستشهدوا). وقوله في هذه الأحاديث: " يشهدون قبل أن يستشهدوا " قد فهم منه طائفة من العلماء أن المراد به أداء الشهادة بالحق قبل أن يطلبها المشهود له وحملوا ذلك على ما إذا كان عالما، جمعا بين هذا وبين قوله: (ألا أنبئكم بخير الشهداء: الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها) وحملوا الثاني على أن يأتي بها المشهود له فيعرفه بها. والصحيح أن الذم في هذه الأحاديث لمن يشهد بالباطل كما جاء في بعض ألفاظ الحديث ثم يفشو فيهم الكذب حتى يشهد الرجل ولا يستشهد، ولهذا قرن ذلك بالخيانة وبترك الوفاء بالنذر وهذه الخصال الثلاثة هي آية المنافق كما ثبت في الحديث المتفق عليه عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وفي لفظ لمسلم: وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) فذمهم صلى الله تعالى عليه وسلم على ما يفشو فيهم من خصال النفاق وبين أنهم يسارعون إلى الكذب حتى يشهد الرجل بالكذب قبل أن يطلب منه ذلك، فإنه شر ممن لا يكذب حتى يسأل أن يكذب. وأما ما فيه ذكر القرن الرابع فمثل ما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس فيقال لهم: هل فيكم من رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فيقولون: نعم فيفتح لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم: هل فيكم من رأى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فيقولون: نعم فيفتح لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم: هل فيكم من رأى أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم فيفتح لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى أصحاب أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم ولفظ البخاري: ثم يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس) ولذلك: قال صلى الله تعالى عليه وسلم في الثانية والثالثة وقال فيها كلها: صحب ولم يقل رأى. ولمسلم من رواية أخرى: (يأتي على الناس زمان يبعث فيهم البعث فيقولون: انظروا هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم به ثم يبعث البعث الثاني فيقولون: هل فيكم من رأى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فيقولون: نعم فيفتح لهم ثم يبعث البعث الثالث فيقولون: انظروا هل ترون فيكم من رأى من رأى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ ثم يكون البعث الرابع فيقال: انظروا هل ترون فيكم أحدا رأى من رأى أحدا رأى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم به). وحديث أبي سعيد هذا يدل على شيئين: على أن صاحب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هو من رآه مؤمنا به وإن قلت صحبته، كما قد نص على ذلك الأئمة أحمد وغيره. وقال مالك: من صحب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سنة أو شهرا أو يوما أو رآه مؤمنا به فهو من أصحابه له من الصحبة بقدر ذلك. وذلك أن لفظ الصحبة جنس تحته أنواع يقال: صحبه شهرا، وساعة. وقد بين في هذا الحديث أن حكم الصحبة يتعلق بمن رآه مؤمنا به، فإنه لا بد من هذا. وفي الطريق الثاني لمسلم ذكر أربعة قرون ومن أثبت هذه الزيادة قال: هذه من ثقة. وترك ذكرها في بقية الأحاديث لا ينفي وجودها كما أنه لما شك في حديث أبي هريرة أذكر الثالث؟ لم يقدح في سائر الأحاديث الصحيحة التي ثبت فيها القرن الثالث. ومن أنكرها قال في حديث ابن مسعود الصحيح: أخبر أنه بعد القرون الثلاثة يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته فيكون ما بعد الثلاثة ذكر بذم. وقد يقال: لا منافاة بين الخبرين، فإنه قد يظهر الكذب في القرن الرابع. ومع هذا فيكون فيه من يفتح به لاتصال الرؤية . ومع هذا فيكون فيه من يفتح به لاتصال الرؤية، وفى القرون التي أثنى عليها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، كان مذهب أهل المدينة أصح مذاهب أهل المدائن، فإنهم كانوا يتأسون بأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من سائر الأمصار، وكان غيرهم من أهل الأمصار دونهم في العلم بالسنة النبوية واتباعها، حتى إنهم لا يفتقرون إلى نوع من سياسة الملوك، وأن افتقار العلماء ومقاصد العباد، أكثر من افتقار أهل المدينة حيث كانوا أغنى من غيرهم عن ذلك كله، بما كان عندهم من الأثار النبوية التي يفتقر إلى العلم بها واتباعها كل أحد، ولهذا لم يذهب أحد من علماء المسلمين إلى أن إجماع أهل مدينة من المدائن حجة يجب اتباعها غير المدينة، لا في تلك الأعصار ولا فيما بعدها، لا إجماع أهل مكة ولا الشام ولا العراق ولا غير ذلك من أمصار المسلمين. ومن حكى عن أبي حنيفة، أو أحد من أصحابه أن إجماع أهل الكوفة حجة يجب اتباعها على كل مسلم، فقد غلط على أبي حنيفة وأصحابه في ذلك، وأما المدينة فقد تكلم الناس في إجماع أهلها، واشتهر عن مالك وأصحابه أن إجماع أهلها حجة، وإن كان بقية الأئمة ينازعونهم في ذلك والكلام، إنما هو في إجماعهم في تلك الأعصار المفضلة، وأما بعد ذلك فقد اتفق الناس على أن إجماع أهلها ليس بحجة، إذ كان حينئذ في غيرها من العلماء ما لم يكن فيها، لاسيما من حين ظهر فيها الرفض، فإن أهلها كانوا متمسكين بمذهبهم القديم منتسبين إلى مذهب مالك إلى أوائل المائة السادسة، أو قبل ذلك أو بعد ذلك، فإنهم قدم إليهم من رافضة المشرق من أهل قاشان، وغيرهم من أفسد مذهب كثير منهم لا سيما المنتسبون منهم إلى العترة النبوية، وقدم عليهم بكتب أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة، وبذل لهم أموالاً كثيرة، فكثرت البدعة فيها من حينئذ، فأما الأعصار الثلاثة المفضلة فلم يكن فيها بالمدينة النبوية بدعة ظاهرة البتة، ولا خرج منها بدعة في أصول الدين البتة، كما خرج من سائر الأمصار، فإن الأمصار الكبار التي سكنها أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وخرج منها العلم والإيمان خمسة: الحرمان، والعراقان، والشام، منها خرج القرآن والحديث والفقه والعبادة، وما يتبع ذلك من أمور الإسلام، وخرج من هذه الأمصار بدع أصولية غير المدينة النبوية. فالكوفة خرج منها التشيع والإرجاء، وانتشر بعد ذلك في غيرها. والبصرة خرج منها القدر، والاعتزال، والنسك الفاسد، وانتشر بعد ذلك في غيرها. والشام كان بها النصب والقدر. وأما التجهم فإنما ظهر من ناحية خراسان، وهو شر البدع. وكان ظهور البدع بحسب البعد عن الدار النبوية، فلما حدثت الفرقة بعد مقتل عثمان ظهرت بدعة الحرورية، وتقدم بعقوبتها الشيعة من الأصناف الثلاثة الغالية، حيث حرقهم علي بالنار، والمفضلة حيث تقدم بجلدهم ثمانين، والسبائية حيث توعدهم وطلب أن يعاقب ابن سبأ بالقتل أو بغيره فهرب منه. ثم في أواخر عصر الصحابة حدثت القدرية في آخر عصر ابن عمر وابن عباس؛ وجابر؛ وأمثالهم من الصحابة. وحدثت المرجئة قريباً من ذلك. وأما الجهمية فإنما حدثوا في أواخر عصر التابعين، بعد موت عمر بن عبد العزيز، وقد روي أنه أنذر بهم، وكان ظهور جهم بخراسان في خلافة هشام بن عبد الملك، وقد قتل المسلمون شيخهم الجعد بن درهم قبل ذلك، ضحى به خالد بن عبد الله القسري، وقال: [يا أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم، أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً تعالى الله عما يقول الجعد بن درهم علواً كبيراً]، ثم نزل فذبحه. وقد روي أن ذلك بلغ الحسن البصري وأمثاله من التابعين فشكروا ذلك. وأما المدينة النبوية فكانت سليمة من ظهور هذه البدع، وإن كان بها من هو مضمر لذلك، فكان عندهم مهاناً مذموماً؛ إذ كان بها قوم من القدرية وغيرهم، ولكن كانوا مذمومين مقهورين بخلاف التشيع والإرجاء بالكوفة، والاعتزال وبدع النساك بالبصرة، والنصب بالشام؛ فإنه كان ظاهراً. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (إن الدجال لا يدخلها) وفي الحكاية المعروفة أن عمرو بن عبيد، وهو رأس المعتزلة مر بمن كان يناجي سفيان الثوري، ولم يعلم أنه سفيان، فقال عمرو لذلك الرجل: من هذا ؟ فقال: هذا سفيان الثوري أو قال: من أهل الكوفة، قال: لو علمت بذلك لدعوته إلى رأيي ولكن ظننته من هؤلاء المدنيين الذين يجيئونك من فوق. ولم يزل العلم والإيمان بها ظاهراً إلى زمن أصحاب مالك، وهم أهل القرن الرابع؛ حيث أخذ ذلك القرن عن مالك وأهل طبقته كالثوري؛ والأوزاعي؛ والليث بن سعد؛ وحماد بن زيد؛ وحماد بن سلمة؛ وسفيان بن عيينة؛ وأمثالهم. وهؤلاء أخذوا عن طوائف من التابعين، وأولئك أخذوا عمن أدركوا من الصحابة. قال أبو يوسف رحمه الله، وهو أجل أصحاب أبي حنيفة، وأول من لقب قاضي القضاة لما اجتمع بمالك وسأله عن هذه المسائل وأجابه مالك بنقل أهل المدينة المتواتر، رجع أبو يوسف إلى قوله، وقال: لو رأى صاحبي مثل ما رأيت لرجع مثل ما رجعت. فقد نقل أبو يوسف أن مثل هذا النقل حجة عند صاحبه أبي حنيفة، كما هو حجة عند غيره، لكن أبو حنيفة لم يبلغه هذا النقل، كما لم يبلغه، ولم يبلغ غيره من الأئمة كثير من الحديث، فلا لوم عليهم في ترك ما لم يبلغهم علمه. وكان رجوع أبي يوسف إلى هذا النقل كرجوعه إلى أحاديث كثيرة اتبعها هو وصاحبه محمد وتركا قول شيخهما؛ لعلمهما بأن شيخهما كان يقول: أن هذه الأحاديث أيضاً حجة إن صحت لكن لم تبلغه. ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما بظن وإما بهوى، فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث التوضي بالنبيذ في السفر مخالفة للقياس وبحديث القهقهة في الصلاة مع مخالفته للقياس؛ لاعتقاده صحتهما، وإن كان أئمة الحديث لم يصححوهما. وقد بينا هذا في رسالة [رفع الملام عن الأئمة الأعلام]، وبينا أن أحداً من أئمة الإسلام لا يخالف حديثاً صحيحاً بغير عذر؛ بل لهم نحو من عشرين عذراً، مثل أن يكون أحدهم لم يبلغه الحديث؛ أو بلغه من وجه لم يثق به، أو لم يعتقد دلالته على الحكم؛ أو اعتقد أن ذلك الدليل قد عارضه ما هو أقوى منه كالناسخ؛ أو ما يدل على الناسخ وأمثال ذلك. والأعذار يكون العالم في بعضها مصيباً، فيكون له أجران، ويكون في بعضها مخطئاً بعد اجتهاده فيثاب على اجتهاده وخطؤه مغفور له ;: لقوله تعالى وقد ذكر الله عن داود وسليمان أنهما حكما في قضية وأنه فهمها أحدهما؛ ولم يعب الآخر؛ بل أثنى على كل واحد منهما بأنه آتاه حكما وعلما فقال: والثاني: ضمان بالمثل والقيمة، وفي ذلك نزاع في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما. والمأثور عن أكثر السلف في نحو ذلك يقتضي الضمان بالمثل، إذا أمكن كما قضى به سليمان، وكثير من الفقهاء لا يضمنون ذلك إلا بالقيمة، كالمعروف من مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد. والمقصود هنا: أن عمل أهل المدينة الذي يجري مجرى النقل، حجة باتفاق المسلمين، كما قال مالك لأبي يوسف - لما سأله عن الصاع والمد، وأمر أهل المدينة بإحضار صيعانهم، وذكروا له أن إسنادها عن أسلافهم أترى هؤلاء يا أبا يوسف يكذبون ؟ قال: لا والله ما يكذبون، فأنا حررت هذه الصيعان فوجدتها خمسة أرطال وثلث بأرطالكم يا أهل العراق. فقال: رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت. وسأله عن صدقة الخضراوات، فقال: هذه مباقيل أهل المدينة، لم يؤخذ منها صدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبي بكر ولا عمر رضي الله عنهما، يعني: وهي تنبت فيها الخضراوات. وسأله عن الأحباس فقال: هذا حبس فلان وهذا حبس فلان، يذكر لبيان الصحابة، فقال أبو يوسف في كل منهما: قد رجعت يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت. وأبو يوسف ومحمد وافقا بقية الفقهاء في أنه ليس في الخضراوات صدقة، كمذهب مالك والشافعي وأحمد، وفي أنه ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، كمذهب هؤلاء، وأن الوقف عنده لازم كمذهب هؤلاء. وإنما قال مالك: أرطالكم يا أهل العراق؛ لأنه لما انقرضت الدولة الأموية، وجاءت دولة ولد العباس قريباً؛ فقام أخوه أبو جعفر الملقب بالمنصور، فبنى بغداد فجعلها دار ملكه، وكان أبو جعفر يعلم أن أهل الحجاز حينئذ كانوا أعنى بدين الإسلام من أهل العراق، ويروى أنه قال ذلك لمالك أو غيره من علماء المدينة، قال: نظرت في هذا الأمر فوجدت أهل العراق أهل كذب وتدليس؛ أو نحو ذلك، ووجدت أهل الشام إنما هم أهل غزو وجهاد، ووجدت هذا الأمر فيكم. ويقال: أنه قال لمالك: أنت أعلم أهل الحجاز؛ أو كما قال. فطلب أبو جعفر علماء الحجاز أن يذهبوا إلى العراق وينشروا العلم فيه، فقدم عليهم هشام بن عروة؛ ومحمد بن إسحاق؛ ويحيى بن سعيد الأنصاري؛ وربيعة بن أبي عبد الرحمن؛ وحنظلة بن أبي سفيان الجمحي؛ وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون وغير هؤلاء. وكان أبو يوسف يختلف في مجالس هؤلاء، ويتعلم منهم الحديث، وأكثر عمن قدم من الحجاز؛ ولهذا يقال في أصحاب أبي حنيفة: أبو يوسف أعلمهم بالحديث؛ وزفر أطردهم للقياس، والحسن بن زياد اللؤلؤي أكثرهم تفريعاً، ومحمد أعلمهم بالعربية والحساب؛ وربما قيل أكثرهم تفريعاً، فلما صارت العراق دار الملك، واحتاج الناس إلى تعريف أهلها بالسنة والشريعة، غيّر المكيال الشرعي برطل أهل العراق، وكان رطلهم بالحنطة الثقيلة والعدس إذ ذاك تسعين مثقالاً: مائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع الدرهم. فهذا هو المرتبة الأولى لإجماع أهل المدينة وهو حجة باتفاق المسلمين. وفى السنن من حديث سفينة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال:( خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يصير ملكاً عضوضاً). فالمحكي عن أبي حنيفة يقتضي أن قول الخلفاء الراشدين حجة، وما يعلم لأهل المدينة عمل قديم على عهد الخلفاء الراشدون مخالف لسنة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أحدهما: وهو قول القاضي أبي يعلى، وابن عقيل أنه لا يرجح. والثاني: وهو قول أبي الخطاب، وغيره أنه يرجح به قيل هذا هو المنصوص عن أحمد، ومن كلامه قال: إذا رأى أهل المدينة حديثاً وعملوا به فهو الغاية، وكان يفتي على مذهب أهل المدينة ويقدمه على مذهب أهل العراق تقريراً كثيراً، وكان يدل المستفتي على مذاهب أهل الحديث، ومذهب أهل المدينة، ويدل المستفتي على إسحق وأبي عبيد وأبي ثور ونحوهم من فقهاء أهل الحديث، ويدله على حلقه المدنيين حلقه أبي مصعب الزهري ونحوه، وأبو مصعب هو آخر من مات من رواة الموطأ عن مالك، مات بعد أحمد بسنة، سنة اثنين وأربعين ومائتين، وكان أحمد يكره أن يرد على أهل المدينة، كما يرد على أهل الرأي، ويقول إنهم اتبعوا الآثار، فهذه مذاهب جمهور الأئمة توافق مذهب مالك في الترجيح لأقوال أهل المدينة. فالذي عليه أئمة الناس أنه ليس بحجة شرعية، هذا مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم، وهو قول المحققين من أصحاب مالك، كما ذكر ذلك الفاضل عبد الوهاب في كتابه [أصول الفقه] وغيره ذكر أن هذا ليس إجماعاً ولا حجة عند المحققين من أصحاب مالك، وربما جعله حجة بعض أهل المغرب من أصحابه، وليس معه للأئمة نص ولا دليل، بل هم أهل تقليد، قلت: ولم أر في كلام مالك ما يوجب جعل هذا حجة، وهو في الموطأ إنما يذكر الأصل المجمع عليه عندهم، فهو يحكي مذهبهم، وتارة يقول الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا يصير إلى الإجماع القديم، وتارة لا يذكر، ولو كان مالك يعتقد أن العمل المتأخر حجة يجب على جميع الأمة اتباعها وإن خالفت النصوص، لوجب عليه أن يلزم الناس بذلك حد الإمكان، كما يجب عليه أن يلزمهم اتباع الحديث والسنة الثابتة التي لا تعارض فيها وبالإجماع، وقد عرض عليه الرشيد أو غيره أن يحمل الناس على موطأه فامتنع من ذلك، وقال: [إن أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وإنما جمعت علم أهل بلدي] أو كما قال وإذا تبين أن إجماع أهل المدينة تفاوت فيه مذاهب جمهور الأئمة، علم بذلك أن قولهم أصح أقوال أهل الأمصار رواية ورأياً، وأنه تارة يكون حجة قاطعة، وتارة حجة قوية، وتارة مرجحاً للدليل إذ ليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين، ومعلوم أن من كان بالمدينة من الصحابة هم خيار الصحابة، إذ لم يخرج منها أحد قبل الفتنة إلا وأقام بها من هو أفضل منه، فإنه لما فتح الشام والعراق وغيرهما أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الأمصار من يعلمهم الكتاب والسنة، فذهب إلى العراق عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر، وعمران بن حصين، وسلمان الفارسي وغيرهم. وذهب إلى الشام معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وبلال بن رباح وأمثالهم. وبقي عنده مثل عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف ومثل أبي بن كعب ومحمد بن مسلمة وزيد بن ثابت وغيرهم. وكان ابن مسعود وهو أعلم من كان بالعراق من الصحابة إذ ذاك، يفتي بالفتيا ثم يأتي المدينة، فيسأل علماء أهل المدينة فيردونه عن قوله، فيرجع إليهم كما؛ جرى في مسألة أمهات النساء لما ظن ابن مسعود أن الشرط فيها وفي الربيبة، وأنه إذا طلق امرأته قبل الدخول، حلت أمها كما تحل ابنتها، فلما جاء إلى المدينة، وسأل عن ذلك، أخبره علماء الصحابة أن الشرط في الربيبة دون الأمهات، فرجع إلى قولهم، وأمر الرجل بفراق امرأته بعد ما حملت، وكان أهل المدينة فيما يعملون، إما أن يكون سنة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؛ وإما أن يرجعوا إلى قضايا عمر بن الخطاب ويقال: أن مالكاً أخذ جل الموطأ عن ربيعة، وربيعة عن سعيد بن المسيب؛ وسعيد بن المسيب عن عمر؛ وعمر محدث. وفي الترمذي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر) وفي الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر ) وفي السنن عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ). وكان عمر يشاور أكابر الصحابة، كعثمان وعلي وطلحة والزبير؛ وسعد وعبد الرحمن؛ وهم أهل الشورى؛ ولهذا قال الشعبي انظروا ما قضى به عمر؛ فإنه كان يشاور. ومعلوم أن ما كان يقضي أو يفتي به عمر ويشاور فيه هؤلاء أرجح مما يقضي أو يفتي به ابن مسعود أو نحوه؛ رضي الله عنهم أجمعين. وكان عمر في مسائل الدين والأصول والفروع إنما يتبع ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يشاور علياً وغيره من أهل الشورى، كما شاوره في المطلقة المعتدة الرجعية في المرض إذا مات زوجها هل ترث ؟ وأمثال ذلك. فلما قتل عثمان وحصلت الفتنة والفرقة وانتقل علي إلى العراق هو وطلحة والزبير لم يكن بالمدينة من هو مثل هؤلاء، ولكن كان بها من الصحابة مثل سعد بن أبي وقاص وأبي أيوب؛ ومحمد بن مسلمة؛ وأمثالهم من هو أجل ممن مع علي من الصحابة، فأعلم من كان بالكوفة من الصحابة علي وابن مسعود وعلي كان بالمدينة، إذ كان بها عمر وعثمان وابن مسعود، وهو نائب عمر وعثمان ومعلوم أن علياً مع هؤلاء أعظم علماً وفضلًا من جميع من معه من أهل العراق، ولهذا كان الشافعي يناظر بعض أهل العراق في الفقه، محتجاً على المناظر بقول علي وابن مسعود، فصنف الشافعي كتاب [اختلاف علي وعبد الله] يبين فيه ما تركه المناظر وغيره من أهل العلم من قولهما، وجاء بعده محمد بن نصر المروزي، فصنف في ذلك أكثر مما صنف الشافعي قال: إنكم وسائر المسلمين تتركون قوليهما لما هو راجح من قوليهما، وكذلك غيركم يترك ذلك لما هو راجح منه. ومما يوضح الأمر في ذلك: أن سائر أمصار المسلمين غير الكوفة كانوا منقادين لعلم أهل المدينة لا يعدون أنفسهم أكفاءهم في العلم، كأهل الشام ومصر مثل الأوزاعي ومن قبله وبعده من الشاميين ومثل الليث بن سعد ومن قبل ومن بعد من المصريين وأن تعظيمهم لعمل أهل المدينة واتباعهم لمذاهبهم القديمة ظاهر بين. وكذلك علماء أهل البصرة كأيوب وحماد بن زيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وأمثالهم. ولهذا ظهر مذهب أهل المدينة في هذه الأمصارفإن أهل مصر صاروا نصرة لقول أهل المدينة وهم أجلاء أصحاب مالك المصريين كابن وهب، وابن القاسم، وأشهب: وعبد الله بن الحكم. والشاميون مثل الوليد بن مسلم، ومروان بن محمد، وأمثالهم، لهم روايات معروفة عن مالك. وأما أهل العراق كعبد الرحمن بن مهدي وحماد بن زيد، ومثل إسماعيل بن إسحاق القاضي وأمثالهم، كانوا على مذهب مالك، وكانوا قضاة القضاة وإسماعيل ونحوه كانوا من أجل علماء الإسلام. وأما الكوفيون بعد الفتنة والفرقة يدعون مكافأة أهل المدينة وأما قبل الفتنة والفرقة فقد كانوا متبعين لأهل المدينة ومنقادين لهم لا يعرف قبل مقتل عثمان أن أحدًا من أهل الكوفة أو غيرها يدعي أن أهل مدينته أعلم من أهل المدينة فلما قتل عثمان وتفرقت الأمة وصاروا شيعًا ظهر من أهل الكوفة من يساوي بعلماء أهل الكوفة علماء أهل المدينة. ووجه الشبهة في ذلك أنه ضعف أمر المدينة لخروج خلافة النبوة منها وقوي أمر أهل العراق لحصول على فيها لكن ما فيه الكلام من مسائل الفروع والأصول قد استقر في خلافة عمر. ومعلوم أن قول أهل الكوفة مع سائر الأمصار قبل الفرقة أولى من قولهم وحديثهم بعد الفرقة قال عبيدة السلماني قاضي على - رضي الله عنه - رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة. ومعلوم أنه كان بالكوفة من الفتنة والتفرق ما دل عليه النص والإجماع لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الفتنة من هاهنا، الفتنة من هاهنا، الفتنة من هاهنا، من حيث يطلع قرن الشيطان). وهذا الحديث قد ثبت عنه في الصحيح من غير وجه. ومما يوضح الأمر في ذلك أن العلم: إما رواية وإما رأي وأهل المدينة أصح أهل المدن رواية ورأيًا. وأما أحاديث أهل الشام فهي دون ذلك، فإنه لم يكن لهم من الإسناد المتصل وضبط الألفاظ ما لهؤلاء ولم يكن فيهم - يعني أهل المدينة، ومكة والبصرة، والشام - من يعرف بالكذب لكن منهم من يضبط ومنهم من لا يضبط. وأما أهل الكوفة فلم يكن الكذب في أهل بلد أكثر منه فيهم ففي زمن التابعين كان بها خلق كثيرون منهم معروفون بالكذب لا سيما الشيعة فإنهم أكثر الطوائف كذبا باتفاق أهل العلم؛ ولأجل هذا يذكر عن مالك وغيره من أهل المدينة أنهم لم يكونوا يحتجون بعامة أحاديث أهل العراق، لأنهم قد علموا أن فيهم كذابين ولم يكونوا يميزون بين الصادق والكاذب فأما إذا علموا صدق الحديث فإنهم يحتجون به كما روى مالك عن أيوب السختياني وهو عراقي فقيل له [في] ذلك فقال: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه أو نحو هذا. وهذا القول هو القول القديم للشافعي؛ حتى روي أنه قيل له: إذا روى سفيان عن منصور عن علقمة عن عبد الله حديثا لا يحتج به فقال: أن لم يكن له أصل بالحجاز وإلا فلا شك أن الشافعي رجع عن ذلك وقال لأحمد بن حنبل: أنتم أعلم بالحديث منا، فإذا صح الحديث فأخبرني به حتى أذهب إليه شاميًا كان أو بصريًا أو كوفيًا ولم يقل مكيًا أو مدنيًا؛ لأنه كان يحتج بهذا قبل. وأما علماء أهل الحديث كشعبة ويحيى بن سعيد وأصحاب الصحيح والسنن فكانوا يميزون بين الثقات الحفاظ وغيرهم فيعلمون من بالكوفة والبصرة من الثقات الذين لا ريب فيهم وأن فيهم من هو أفضل من كثير من أهل الحجاز ولا يستريب عالم في مثل أصحاب عبد الله بن مسعود كعلقمة، والأسود، وعبيدة السلماني، والحارث التيمي وشريح القاضي ثم مثل إبراهيم النخعي، والحكم بن عتيبة وأمثالهم من أوثق الناس وأحفظهم فلهذا صار علماء أهل الإسلام متفقين على الاحتجاج بما صححه أهل العلم بالحديث من أي مصر كان وصنف أبو داود السجستاني مفاريد أهل الأمصار يذكر فيه ما انفرد أهل كل مصر من المسلمين من أهل العلم بالسنة. وأما ما قال هشام بن عروة: لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلاً حتى فشا فيهم المولدون: أبناء سبايا الأمم فقالوا فيهم بالرأي فضلوا وأضلوا. قال ابن عيينة: فنظرنا في ذلك فوجدنا ما حدث من الرأي إنما هو من المولدين أبناء سبايا الأمم وذكر بعض من كان بالمدينة وبالبصرة وبالكوفة والذين بالمدينة أحمد عند هذا ممن بالعراق من أهل المدينة. ولما قال مالك - رضي الله عنه - عن إحدى الدولتين إنهم كانوا أتبع للسنن من الدولة الأخرى قال ذلك لأجل ما ظهر بمقاربتها من الحدثان؛ لأن أولئك أولى بالخلافة نسبًا وقرنًا. وقد كان المنصور والمهدي والرشيد - وهم سادات خلفاء بني العباس - يرجحون علماء الحجاز وقولهم على علماء أهل العراق كما كان خلفاء بني أمية يرجحون أهل الحجاز على علماء أهل الشام ولما كان فيهم من لم يسلك هذا السبيل بل عدل إلى الآراء المشرقية كثرت الأحداث فيهم وضعفت الخلافة. ثم أن بغداد إنما صار فيها من العلم والإيمان ما صار وترجحت على غيرها بعد موت مالك وأمثاله من علماء أهل الحجاز، وسكنها من أفشى السنة بها وأظهر حقائق الإسلام مثل أحمد بن حنبل وأبي عبيد وأمثالهما من فقهاء أهل الحديث ومن ذلك الزمان ظهرت بها السنة في الأصول والفروع وكثر ذلك فيها وانتشر منها إلى الأمصار وانتشر أيضًا من ذلك الوقت في المشرق والمغرب، فصار في المشرق مثل إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، وأصحابه وأصحاب عبد الله بن المبارك وصار إلى المغرب، من علم أهل المدينة ما نقل إليهم من علماء الحديث فصار في بغداد وخراسان والمغرب من العلم ما لا يكون مثله إذ ذاك بالحجاز والبصرة. وهذا باب يطول تتبعه ولو استقصينا فضل علماء أهل المدينة وصحة أصولهم لطال الكلام. إذا تبين ذلك، فلا ريب عند أحد أن مالكًا - رضي الله عنه - أقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأيا، فإنه لم يكن في عصره ولا بعده أقوم بذلك منه كان له من المكانة عند أهل الإسلام - الخاص منهم والعام - ما لا يخفى على من له بالعلم أدنى إلمام وقد جمع الحافظ أبو بكر الخطيب أخبار الرواة عن مالك فبلغوا ألفا وسبعمائة أو نحوها وهؤلاء الذين اتصل إلى الخطيب حديثهم بعد قريب من ثلاثمائة سنة فكيف بمن انقطعت أخبارهم أو لم يتصل إليه خبرهم فإن الخطيب توفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة وعصره وعصر ابن عبد البر، والبيهقي، والقاضي أبي يعلى، وأمثال هؤلاء واحد ومالك، توفي سنة تسع وسبعين ومائة، وتوفي أبو حنيفة سنة خمسين ومائة، وتوفي الشافعي سنة أربع ومائتين وتوفي أحمد بن حنبل سنة إحدى وأربعين ومائتين؛ ولهذا قال الشافعي - رحمه الله - ما تحت أديم السماء كتاب أكثر صوابًا بعد كتاب الله من موطأ مالك. وهو كما قال الشافعي رضي الله عنه. وهذا لا يعارض ما عليه أئمة الإسلام من أنه ليس بعد القرآن كتاب أصح من صحيح البخاري ومسلم مع أن الأئمة على أن البخاري أصح من مسلم ومن رجح مسلمًا فإنه رجحه بجمعه ألفاظ أحاديث في مكان واحد فإن، ذلك أيسر على من يريد جمع ألفاظ الحديث. وأما من زعم أن الأحاديث التي انفرد بها مسلم أو الرجال الذين انفرد بهم أصح من الأحاديث التي انفرد بها البخاري ومن الرجال الذين انفرد بهم، فهذا غلط لا يشك فيه عالم كما لا يشك أحد أن البخاري أعلم من مسلم بالحديث والعلل والتاريخ وأنه أفقه منه، إذ البخاري وأبو داود أفقه أهل الصحيح والسنن المشهورة وإن كان قد يتفق لبعض ما انفرد به مسلم أن يرجع على بعض ما انفرد به البخاري فهذا قليل والغالب بخلاف ذلك فإن الذي اتفق عليه أهل العلم أنه ليس بعد القرآن كتاب أصح من كتاب البخاري ومسلم. وإنما كان هذان الكتابان كذلك لأنه جرد فيهما الحديث الصحيح المسند ولم يكن القصد بتصنيفهما ذكر آثار الصحابة والتابعين ولا سائر الحديث من الحسن والمرسل وشبه ذلك ولا ريب أن ما جرد فيه الحديث الصحيح المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أصح الكتب؛ لأنه أصح منقولاً عن المعصوم من الكتب المصنفة. وأما الموطأ ونحوه فإنه صنف على طريقة العلماء المصنفين إذ ذاك فإن الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكتبون القرآن وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهاهم أن يكتبوا عنه غير القرآن وقال: (من كتب عني شيئًا غير القرآن فليمحه). ثم نسخ ذلك عند جمهور العلماء، حيث (أذن في الكتابة لعبد الله بن عمرو وقال: اكتبوا لأبي شاه). وكتب لعمرو بن حزم كتابًا قالوا: وكان النهي أولًا خوفًا من اشتباه القرآن بغيره ثم أذن لما أمن ذلك فكان الناس يكتبون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكتبون وكتبوا أيضًا غيره. ولم يكونوا يصنفون ذلك في كتب مصنفة إلى زمن تابع التابعين فصنف العلم فأول من صنف ابن جريج شيئًا في التفسير وشيئًا في الأموات. وصنف سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة ومعمر وأمثال هؤلاء يصنفون ما في الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين. وهذه هي كانت كتب الفقه والعلم والأصول والفروع بعد القرآن فصنف مالك الموطأ على هذه الطريقة. وصنف بعد عبد الله بن المبارك، وعبد الله بن وهب، ووكيع بن الجراح وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وغير هؤلاء فهذه الكتب التي كانوا يعدونها في ذلك الزمان هي التي أشار إليها الشافعي - رحمه الله - فقال: ليس بعد القرآن كتاب أكثر صوابًا من موطأ مالك فإن حديثه أصح من حديث نظرائه وكذلك الإمام أحمد لما سئل عن حديث مالك ورأيه وحديث غيره ورأيهم؟ رجح حديث مالك ورأيه على حديث أولئك ورأيهم. وهذا يصدق الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالمًا أعلم من عالم المدينة). فقد روي عن غير واحد كابن جريج وابن عيينة وغيرهما أنهم قالوا: هو مالك. والذين نازعوا في هذا لهم مأخذان: أحدهما: الطعن في الحديث فزعم بعضهم أن فيه انقطاعًا. والثاني: أنه أراد غير مالك كالعمري الزاهد ونحوه. فيقال: ما دل عليه الحديث وأنه مالك أمر متقرر لمن كان موجودا وبالتواتر لمن كان غائبا، فإنه لا ريب أنه لم يكن في عصر مالك أحد ضرب إليه الناس أكباد الإبل أكثر من مالك. وهذا يقرر بوجهين: أحدهما: بطلب تقديمه على مثل الثوري والأوزاعي والليث وأبي حنيفة وهذا فيه نزاع ولا حاجة إليه في هذا المقام. والثاني: أن يقال: أن مالكا تأخر موته عن هؤلاء كلهم فإنه توفي سنة تسع وسبعين ومائة وهؤلاء كلهم ماتوا قبل ذلك. فمعلوم أنه بعد موت هؤلاء لم يكن في الأمة أعلم من مالك في ذلك العصر وهذا لا ينازع فيه أحد من المسلمين ولا رحل إلى أحد من علماء المدينة ما رحل إلى مالك لا قبله ولا بعده رحل إليه من المشرق والمغرب ورحل إليه الناس على اختلاف طبقاتهم من العلماء والزهاد والملوك والعامة. وانتشر موطؤه في الأرض حتى لا يعرف في ذلك العصر كتاب بعد القرآن كان أكثر انتشارًا من الموطأ وأخذ الموطأ عنه أهل الحجاز والشام والعراق ومن أصغر من أخذ عنه الشافعي ومحمد بن الحسن وأمثالهما وكان محمد بن الحسن إذا حدث بالعراق عن مالك والحجازيين تمتلئ داره وإذا حدث عن أهل العراق يقل الناس لعلمهم بأن علم مالك وأهل المدينة أصح وأثبت. وأجل من أخذ عنه الشافعي العلم اثنان مالك وابن عيينة. ومعلوم عند كل أحد أن مالكًا أجل من ابن عيينة حتى إنه كان يقول: إني ومالك كما قال القائل: وابن اللبون إذا ما لز في قرن ** لم يستطع صولة البزل القناعيس ومن زعم أن الذي ضربت إليه أكباد الإبل في طلب العلم هو العمري الزاهد مع كونه كان رجلًا صالحًا زاهدًا آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر لم يعرف أن الناس احتاجوا إلى شيء من علمه، ولا رحلوا إليه فيه. وكان إذا أراد أمرًا يستشير مالكًا ويستفتيه كما نقل أنه استشاره لما كتب إليه من العراق أن يتولى الخلافة فقال: حتى أشاور مالكًا فلما استشاره أشار عليه أن لا يدخل في ذلك وأخبره أن هذا لا يتركه ولد العباس حتى تراق فيه دماء كثيرة وذكر له ما ذكره عمر بن عبد العزيز - لما قيل له: ولِ القاسم بن محمد - أن بني أمية لا يدعون هذا الأمر حتى تراق فيه دماء كثيرة. وهذه علوم التفسير والحديث والفتيا وغيرها من العلوم، لم يعلم أن الناس أخذوا عن العمري الزاهد منها ما يذكر فكيف يقرن هذا بمالك في العلم ورحلة الناس إليه؟. ثم هذه كتب الصحيح التي أجل ما فيها كتاب البخاري أول ما يستفتح الباب بحديث مالك وإن كان في الباب شيء من حديث مالك لا يقدم على حديثه غيره ونحن نعلم أن الناس ضربوا أكباد الإبل في طلب العلم فلم يجدوا عالمًا أعلم من مالك في وقته. والناس كلهم مع مالك وأهل المدينة: إما موافق، وإما منازع فالموافق لهم عضد ونصير والمنازع لهم معظم لهم مبجل لهم عارف بمقدارهم. وما تجد من يستخف بأقوالهم ومذاهبهم إلا من ليس معدودًا من أئمة العلم وذلك لعلمهم أن مالكًا هو القائم بمذهب أهل المدينة. وهو أظهر عند الخاصة والعامة من رجحان مذهب أهل المدينة على سائر الأمصار، فإن موطأه مشحون: إما بحديث أهل المدينة، وإما بما اجتمع عليه أهل المدينة: إما قديمًا، وإما حديثًا، وإما مسألة تنازع فيها أهل المدينة وغيرهم فيختار فيها قولا ويقول: هذا أحسن ما سمعت. فأما بآثار معروفة عند علماء المدينة ولو قدر أنه كان في الأزمان المتقدمة من هو أتبع لمذهب أهل المدينة من مالك فقد انقطع ذلك. ولسنا ننكر أن من الناس من أنكر على مالك مخالفته أولا لأحاديثهم في بعض المسائل كما يذكر عن عبد العزيز الدراوردي أنه قال له في مسألة تقدير المهر بنصاب السرقة: تعرقت يا أبا عبد الله أي: صرت فيها إلى قول أهل العراق الذين يقدرون أقل المهر بنصاب السرقة لكن النصاب عند أبي حنيفة وأصحابه عشرة دراهم. وأما مالك والشافعي وأحمد فالنصاب عندهم ثلاثة دراهم، أو ربع دينار كما جاءت بذلك الأحاديث الصحاح. فيقال: أولا: أن مثل هذه الحكاية تدل على ضعف أقاويل أهل العراق عند أهل المدينة، وإنهم كانوا يكرهون للرجل أن يوافقهم وهذا مشهور عندهم يعيبون الرجل بذلك كما قال ابن عمر لما استفتاه عن دم البعوض وكما قال ابن المسيب لربيعة لما سأله عن عقل أصابع المرأة. وأما ثانيًا: فمثل هذا في قول مالك قليل جدا وما من عالم إلا وله ما يرد عليه وما أحسن ما قال ابن خويز منداد في مسألة بيع كتب الرأي والإجارة عليها: لا فرق عندنا بين رأي صاحبنا مالك وغيره في هذا الحكم، لكنه أقل خطأ من غيره. وأما الحديث فأكثره نجد مالكا قد قال به في إحدى الروايتين وإنما تركه طائفة من أصحابه كمسألة رفع اليدين عند الركوع والرفع منه. وأهل المدينة رووا عن مالك الرفع موافقًا للحديث الصحيح الذي رواه، لكن ابن القاسم ونحوه من البصريين هم الذين قالوا بالرواية الأولى ومعلوم أن مدونة ابن القاسم أصلها مسائل أسد بن الفرات التي فرعها أهل العراق ثم سأل عنها أسد ابن القاسم. فأجابه بالنقل عن مالك وتارة بالقياس على قوله ثم أصلها في رواية سحنون فلهذا يقع في كلام ابن القاسم طائفة من الميل إلى أقوال أهل العراق وإن لم يكن ذلك من أصول أهل المدينة. ثم اتفق أنه لما انتشر مذهب مالك بالأندلس وكان يحيى بن يحيى عامل الأندلس والولاة يستشيرونه فكانوا يأمرون القضاة أن لا يقضوا إلا بروايته عن مالك ثم رواية غيره فانتشرت رواية ابن القاسم عن مالك لأجل من عمل بها وقد تكون مرجوحة في المذهب وعمل أهل المدينة والسنة حتى صاروا يتركون رواية الموطأ الذي هو متواتر عن مالك وما زال يحدث به إلى أن مات لرواية ابن القاسم وإن كان طائفة من أئمة المالكية أنكروا ذلك فمثل هذا أن كان فيه عيب فإنما هو على من نقل ذلك لا على مالك ويمكن المتبع لمذهبه أن يتبع السنة في عامة الأمور، إذ قل من سنة إلا وله قول يوافقها بخلاف كثير من مذهب أهل الكوفة، فإنهم كثيرا ما يخالفون السنة وإن لم يتعمدوا ذلك. ومعلوم أن سفيان الثوري أعلم أهل العراق ذلك الوقت بالفقه والحديث، فإن أبا حنيفة، والثوري، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، والحسن بن صالح بن جني، وشريك بن عبد الله النخعي القاضي: كانوا متقاربين في العصر وهم أئمة فقهاء الكوفة في ذلك العصر وكان أبو يوسف يتفقه أولا على محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي ثم إنه اجتمع بأبي حنيفة فرأى أنه أفقه منه فلزمه وصنف كتاب [اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى]. وأخذه عنه محمد بن الحسن ونقله الشافعي عن محمد بن الحسن وذكر فيه اختياره وهو المسمى بكتاب [اختلاف العراقيين]. ومعلوم أن سفيان الثوري أعلم هذه الطبقة في الحديث مع تقدمه في الفقه والزهد والذين أنكروا من أهل العراق وغيرهم ما أنكروا من الرأي المحدث بالكوفة لم ينكروا ذلك على سفيان الثوري بل سفيان عندهم أمام العراق فتفضيل أحمد لمذهب مالك على مذهب سفيان تفضيل له على مذهب أهل العراق. وقد قال الإمام أحمد في علمه وعلم مالك بالكتاب والسنة والآثار ما تقدم مع أن أحمد يقدم سفيان الثوري على هذه الطبقة كلها وهو يعظم سفيان غاية التعظيم ولكنه كان يعلم أن مذهب أهل المدينة وعلمائها أقرب إلى الكتاب والسنة من مذهب أهل الكوفة وعلمائها. وأحمد كان معتدلاً عالمًا بالأمور يعطي كل ذي حق حقه، ولهذا كان يحب الشافعي ويثني عليه، ويدعو له، ويذب عنه عند من يطعن في الشافعي، أو من ينسبه إلى بدعة ويذكر تعظيمه للسنة واتباعه لها ومعرفته بأصول الفقه كالناسخ والمنسوخ، والمجمل والمفسر ويثبت خبر الواحد ومناظرته عن مذهب أهل الحديث من خالفه بالرأي وغيره. وكان الشافعي يقول: سموني ببغداد ناصر الحديث. ومناقب الشافعي واجتهاده في اتباع الكتاب والسنة، واجتهاده في الرد على من يخالف ذلك كثير جدا وهو كان على مذهب أهل الحجاز وكان قد تفقه على طريقة المكيين أصحاب ابن جريج كمسلم بن خالد الزنجي، وسعيد بن سالم القداح ثم رحل إلى مالك وأخذ عنه الموطأ وكمل أصول أهل المدينة وهم أجل علما وفقها وقدرا من أهل مكة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهد مالك ثم اتفقت له محنة ذهب فيها إلى العراق فاجتمع بمحمد بن الحسن وكتب كتبه وناظره وعرف أصول أبي حنيفة وأصحابه وأخذ من الحديث ما أخذه على أهل العراق ثم ذهب إلى الحجاز. ثم قدم إلى العراق مرة ثانية وفيها صنف كتابه القديم المعروف بـ [الحجة]. واجتمع به أحمد بن حنبل في هذه القدمة بالعراق واجتمع به بمكة وجمع بينه وبين إسحاق بن راهويه وتناظرا بحضور أحمد رضي الله عنهم أجمعين. ولم يجتمع بأبي يوسف ولا بالأوزاعي وغيرهما فمن ذكر ذلك في الرحلة المضافة إليه فهو كاذب، فإن تلك الرحلة فيها من الأكاذيب عليه وعلى مالك وأبي يوسف ومحمد وغيرهم من أهل العلم ما لا يخفى على عالم وهي من جنس كذب القصاص ولم يكن أبو يوسف ومحمد سعيًا في أذى الشافعي قط ولا كان حال مالك معه ما ذكر في تلك الرحلة الكاذبة. ثم رجع الشافعي إلى مصر وصنف كتابه الجديد وهو في خطابه وكتابه ينسب إلى مذهب أهل الحجاز فيقول: قال: بعض أصحابنا وهو يعني: أهل المدينة، أو بعض علماء أهل المدينة كمالك ويقول في أثناء كلامه: وخالفنا بعض المشرقيين وكان الشافعي عند أصحاب مالك واحدًا منهم ينسب إلى أصحابهم واختار سكنى مصر إذ ذاك لأنهم كانوا على مذهب أهل المدينة ومن يشبههم من أهل مصر كالليث بن سعد وأمثاله وكان أهل الغرب بعضهم على مذهب هؤلاء وبعضهم على مذهب الأوزاعي وأهل الشام ومذهب أهل الشام ومصر والمدينة متقارب لكن أهل المدينة أجل عند الجميع. ثم إن الشافعي - رضي الله عنه - لما كان مجتهدًا في العلم ورأى من الأحاديث الصحيحة وغيرها من الأدلة ما يجب عليه اتباعه وإن خالف قول أصحاب المدنيين، قام بما رآه واجبًا عليه وصنف الإملاء على مسائل ابن القاسم وأظهر خلاف مالك فيما خالفه فيه وقد أحسن الشافعي فيما فعل وقام بما يجب عليه وإن كان قد كره ذلك من كرهه وآذوه وجرت محنة مصرية معروفة والله يغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. وأبو يوسف ومحمد هما صاحبا أبي حنيفة وهما مختصان به كاختصاص الشافعي بمالك ولعل خلافهما له يقارب خلاف الشافعي لمالك وكل ذلك اتباعا للدليل وقياما بالواجب.
|